فضيلة العلامة د. صالح بن فوزان الفوزان : الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وكرمه وفضله على كثير ممن خلقه تفضيلا ، أحمده على نعمه التي لا تزال تتوالى على العباد ، وأشكره وشكره مؤذن بالمزيد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمر بالمحافظة على نعمه بشكرها ونهى عن تعريضها للزوال بكفرها ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بعثه الله ليتمم مكارم الأخلاق ، ويهدي لأقوم السبل ، فكانت بعثته رحمه للعالمين ، وحجة على الخلق أجمعين ، صلوات الله وسلامه على ما تعاقب الليل والنهار وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار . أما بعد :
أيها الناس : اتقوا الله واشكروه على نعمة الإسلام .
أيها المسلمون : بين أيديكم دين عظيم اختاره الله لكم ومنَّ به عليكم ملة أبيكم إبراهيم ، اشتمل على كل ما اشتملت عليه أديان الأنبياء ؛ فهو خلاصتها وخاتمتها ، قال تعالى : ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ﴾ . [ الشورى : 13 ] ، ورسولكم خير رسول عرفته البشرية ؛ فهو أفضل المرسلين وخاتم النبيين ، به تمت عليكم النعمة وانجلت به عنكم ظلمات الجهالة والشرك والظلم والعدوان ، قال تعالى : ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ . [ آل عمران : 164 ] .
لقد وصاكم ربكم بالتمسك بهذا الدين ، والاقتداء بهذا الرسول ، قال تعالى : ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ . [ الأنعام : 153 ] .
أيها المسلمون : أمامنا طريق السعادة مفتوح فلماذا لا نسلكه !؟ أمامنا طريق الرقي والفلاح واضح ؛ فلماذا نعدل عنه ونتركه !؟ ونسلك طريق التأخر والشقاء والخسران ، أرأيتم أن دينكم قصر في إرشادكم إلى سبيل الفلاح فعدلتم عنه ، هل قرأتم في تعاليمه ما يصدكم عن جلائل الأعمال ومكارم الأخلاق ؛ فهجرتموه !؟ كلا ، إنه دين الله الذي يبقى طريقًا للسعادة والرقي إلى يوم يبعثون ، ما من فضيلة إلا حث على التخلق بها ، وما من رذيلة إلا حذر من قبحها وبين سوء عاقبتها ؛ فما بال أكثرنا يسيرون على غير هدى ويقلدون الكفار فيما حرمه الإسلام ونهى عنه ، قد أهمل الكثير أمر الدين ، واستهانوا بحقوقه ، وعبثوا بواجباته ، وتجرأوا على انتهاك حرمات الله ، واستبدلوا ذلك بأخلاق الكفار وعاداتهم وتقاليدهم فيا : ﴿ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا ﴾ . [ الكهف : 50 ] .
أيها المسلمون : إن المسلم الحقيقي لا يرضى بدينه بديلاً مهما كلفه الأمر ، ومهما بذل من قبيل الكفرة له من المغريات ، أو ناله منهم من الأذى ، يبقى أمام كل فتنة صلبًا في دينه متمسكًا بعقيدته ؛ فهذا بلال مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشتد عليه أذى الكفار ، حتى أنهم ليطرحونه على ظهره في رمضاء مكة الملتهبة بالحرارة ، ويضعون الصخرة الثقيلة على صدره يريدون منه أن يترك هذا الدين ؛ فيصمد ويثبت على دينه ويقول : أحد ، أحد ، وهذا خبيب بن الربيع يقول له مسيلمة الكذاب قل : لا إله إلا الله ؛ فيقول : لا إله إلا الله ؛ فيقول له : قل : أشهد أن مسيلمة رسول الله ؛ فيقول : لا أسمع ، ثم يقطعه مسيلمة عضوًا ، عضوًا ، ويأبى أن يقول مسيلمة رسول الله ، حتى لقي ربه صابرًا محتسبًا ، وهذا عبد الله بن حذافة السهمي يأخذه ملك النصارى أسيرًا عنده ، ويقول له : اتبعني وأشركك في ملكي ؛ فيأبى ، ويقول : لا أبغي بدين محمد - صلى الله عليه وسلم - بديلاً ، ثم يحمي ملك الروم النحاس بالنار ويغلي القدور لتعذيبه ، وعند ذلك يبكي عبد الله بن حذافة ؛ فيطمع ملك الروم برجوعه عن الإسلام ، ويقول : تتبعني وتترك دينك ؛ فيرد عليه عبد الله - رضي الله عنه - بقوله : ما بكيت خوفًا على نفسي ، ولكن وددت أن لي نفوسًا عدد شعري تعذب في سبيل الله ؛ فتدخل الجنة بغير حساب ، وهذا عمار بن ياسر وأبوه وأمه سمية وأهل بيته عذبوا في الله ليتركوا دين الإسلام ؛ فصبروا على العذاب وتمسكوا بالإسلام ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمر عليهم وهم يعذبون ويقول : ( صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة ) ، وهذا خباب ابن الأرت عذب في الله وصبر على دينه وكان من تعذيب المشركين له أن أوقدوا له نارًا وسحبوه عليها ؛ فما أطفأها إلا شحم ظهره لما ذاب كل ذلك وهو صابر على دينه لا يتزحزح عنه قيد شعره .
أيها المسلمون : هذه نماذج من ثبات المسلمين على دينهم مع شدة الأذى والتعذيب ، أضف إلى ذلك ما قدموه في سبيل حماية هذا الدين ونشره من جهاد بالأنفس والأموال ، يتساقط منهم مئات الشهداء في المعارك وهم مغتطبون بذلك ؛ فخورون ، بل تركوا من أجله الديار والأموال وهاجروا فرارًا به أن يخدش أو يدنس ، يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا ، وينصرون الله ورسوله ، وما ذالكم إلا لما عرفوا في هذا الدين من الخير والسعادة ؛ فتأصل حبه في قلوبهم حتى صار أحب إليهم من أنفسهم وأولادهم وأموالهم وديارهم حتى قال قائلهم : ( إذا عرض بلاء فقدم مالك دون نفسك فإن تجاوز البلاء فقدم نفسك دون دينك ) .
عباد الله : فما بال كثير ممن يتسمون بالإسلام اليوم وينتسبون إليه ترخص عليهم تعاليمه عند أدنى طمع فتراهم يستبدلونها بتعاليم الكفر !؟ ما بالهم يرفضون التحاكم إليه ويتحاكمون إلى قوانين الكفر وأنظمته !؟ ما بال الكثير من المسلمين يتشبهون بالكفار في زيهم ولباسهم وكلامهم ، بل وحتى في صفة أكلهم ، فيحلقون لحاهم ويغذون شواربهم ويرسلون شعور رؤوسهم ويطيلون أظافرهم ويلبسون خواتيم الذهب ويأكلون ويشربون باليد اليسرى !؟ ما بال المسلم وابن المسلمين ومن نشأ في بيئة التوحيد وتحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله ، يذهب إلى بلاد الكفار ؛ فيشاركهم في شرب الخمور وأكل لحم الخنزير وفعل البغاء ثم يعود إلينا متنكرًا لديننا وآدابنا الإسلامية ويحاول أن يحول بلادنا إلى قطعة من البلاد الكافرة التي قدم منها !؟ أنه شر وافد وشر رائد لقومه ، ذهب ليتعلم التخصصات التي تحتاج إليها بلاده ، لكنه عاد بلا دين ولا أخلاق - بل ولا تعلم مفيد - عاد بالقشور والرذائل ، بعد أن تنكر للدين والفضائل ، إن كثيرًا من دول الغرب ممن يتعطشون إلى الإسلام إذا رأوا هؤلاء زهدوا في الإسلام ظنًا أن هؤلاء يمثلونه فصاروا من الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا .
أيها المسلمون : إن دينكم دين عظيم - وهو صلاح البشرية جمعاء - فلئن رخص لديكم فلن يرخص لدى الذين ينشدون الحقيقة ويتلمسون أسباب النجاة : ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ . [ محمد : 38 ] . إن دينكم يريد منكم ، الصدق والصبر والجلد والبذل في سبيله وصد الهجوم المعادي له والأخذ على أيدي سفهائكم عن العبث بتعاليمه ، وإلا فسيرحل عنكم إلى غيركم فتخسرون الدنيا والآخرة : ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ . [ محمد : 38 ]